في بيتنا موهوب

بسم الله الرحمن الرحيم

طفلي من عمر السنتين وهو يلعب بطريقة مختلفة عن أخوته. يعمل علي الاستنتاج الفوري دون الحاجه للسؤال كعادة الاطفال.

وهنا نقف لنتأمل ظاهرة سؤال الأطفال لنا “الكبار”. نعم يسألونك طول الوقت  فتشعر وتشعرين اما بالملل أو الإحراج منه وأحيانا وللأسف الغضب. والسؤال هنا لمئا يسألنا الأطفال؟ والاجابة لأننا “جوجل” بالنسبة لهم وأقصد بـ”جوجل ليس محرك البحث العملاق فقط وكن حرفيا ما تعنيه كلمة جوجل في القاموس وهو الرقم

فنحن بالنسبة لهم نعرف كل شئ في الدنيا والآخرة وما وراء الطبيعة بل ويعتقدون أننا نعلم الغيب لأننا كثيرا ما نقول لهم “مش قلت لك ما تعملش كذا عشان هيحصل لك ….وشوفت أهو حصل”.

وهنا أتذكر تعبيرين كثيرا ما  أسمع أطفالي خلال حواراتهم الخاصة “طبعا أقصد الحوارات الهادئة والدبلوماسية منها فقط”  يقولون

1) إيه رأيك نعمل كذا…..

2) طيب ما نجرب نعمل كذا….

وأعلق كثيرا لأمهم وأم أسرتنا أن هاتين الكلمتين نتيجة جميلة لما نحاول  وأقول مؤكدا أننا نحاول أن نعلمهم طريقة البحث العلمي ومهارات التفاوض والتعاون عن طريق هذه الممارسات التأسيسية للعمل كفريق “TEAM WORKING” فهي كلمات تعكس عمق تأثيها من أطفال ما دون  السادسة بل أحيانا كثيرة ما دون الثالثة.

نعود لأسئلة الأطفال وهو ما سيدفعك بكل صدق إلي الاستمتاع بقراءة كذا الكتاب والذي سأحاول أن يكون بمثابة دليلك في صحراء كالنجوم التي تهتدي بها في سماء الأطفال التي تتسع في كثير من  الأحيان لأكبر مما تتسعه سماؤنا نحن الكبار.

أنواع الأسئلة التي يسألها طفلك:

1) أسئلة متسلسلة لا تنتهي ومثال لها

الطفل:”ماما ..من صنع التلفاز؟”

الأم: وترد أنت بكل براءة “مصنع التليفيزيونات”

الطفل: ازاي؟

الأم: مش عارفه….أو تغير الموضوع

الطفل: طيب ازاي الناس دي في التليفزيون مش حقيقية و انا شايفهم؟هم فين؟ هو أنا لو فتحت التليفزيون هشوفهم جوا؟

الأم: “تنتابها هيستيرا التعجب وتشعر انها وقعت في فخ” تحاول الهروب منه مرارا ولكن الطفل يحاصرها بأسئلة منطقية ولا تعرف الرد فتنهي الحوار بكلمتين “روح اسأل بابا”

الابن: بابا…بابا…بابا “الثالثة مع صرخة مدوية”

الأب: يلتفت مذعورا  من ال”صرخة التي أيقظته من حالة اللاوعي بعد يوم من العمل المرهق” ويقول أيوه يا حبيبي

الابن: يكرر سؤاله الأول مع زيادات أكثر تعقيدا فما يتوقعه أن أمه أرسلته “للخبير”

الأب: بكل براءة “+-@&*%%$” تعبيرات مش واضحه للطفل

وترجمتها كالتالي “ELECTROMAGNETIC WAVES TRANSMITTED OVER AIR THEN RECIVER RECIVE THIS WAVES THROUGH DISH AND CONVERT IT TO  AUDIO VIDEO SIGNALS WHICH TV SHOW ON SCREEN”

و لو قالها بالعربي” موجات كهرومغناطيسية أرسلت عبر الهواء ثم تم استلمها جهاز الريسيفر بواسطة الدش ثم حولها لاشار فيديو وصوت يعرضها التليفيزيون علي الشاشه”

الابن: (مع أنه ما فهمش  حاجه من كلاب الأب) “يعني إيه موجات كهرومغناطيسية؟؟؟”

الأب: في ذهول وهو يقول في نفسه (يعني أنت فهمت الباقي ؟) “لما تكبر هتعرف ذاكر بس كويس عشان  تدخل هندسة وتعرف”

الابن : يعني إيه هندسة

الأب: لما تكبر هتعرف

الابن: ………………..

تعليقي علي الحوار:

الطفل يريد أن يجري حوارا بغض النظر عن المعلومة التي يسأل عنها

الأم تقف في المطبخ ولا تلقي بالا للحوار أو ما يعنيه لطفلها

الأب مهندس في الغالب ولكن ككثير من أساتذة الجامعة يشرحون لأنفسهم لا لطلبتهم ثم يتحول للمراوغة وللأسف تغيير الدفة من سؤال يحتاج إجابة لتوجيه طفل برئ لمجال واسع جداا لا حدود له لمجرد أنه يعرف إجابة سؤال

أعتقد أنه يجب أخذ الأسئلة علي محمل الجد نعم ولكن ليكن عندنا الذكاء الكافي لمعرفة هدف الطفل من السؤال وليكن بداية الحوار في نسخته الجديدة كالتالي

الابن: التليفزيون بيشتغل ازاي؟

الاب: تقصد بيشتغل بالبطارية او الكهرباء؟

الابن: نعم

الاب: طيب إيه رأيك نشوف بنفسنا مع بعض

الابن: موافق

الاب يقوم من جلسته امام التليفزيون ومعه الابن يذهبان للتلفاز فيريان كثير من  الاسلاك فيشعر الطفل بالحيرة و “التوهان”

الاب: أول حاجه تتعلمها عشان تعرف إجابة سؤال هو أنك تقسمه لأسئلة أصغر وأسهل خلينا نشوف أولا نغلق التلفاز ونفكك جميع أسلاكه ثم نري ……ويشرك طفله معه في كل تفصيلة مع بساطتها

تنبيه: طبعا الأب والأم سواء ولكن هنا نضرب مثالا فقط ليس للتوجيه بأنه دور شخص بعينه.

الآن يكون الطفل قد تعلم كثير من المبادئ في البحث العلمي والتجربة والعمل مع الفريق بالإضافة للمعلومات علمية والتي منها ما نوع الطاقة التي يستخدمها التلفاز ثم نبدأ في اتباع شغفه نحو المعرفة.

الحوار السابق يظهر أنه يمكننا أن نبدأ طريقا ممتعا مع طفلنا نتعلم فيه ونعلم ويكون مدخلا مناسبا لوجود “الحوار” والذي يمثل لؤلؤة قلادة التربية والتعليم

الحوار هو لؤلؤة القلادة في التربية والتعليم

نعود لنسأل أنفسنا سؤالا مهما جدا وهو ماذا لو لم أكن أعلم فعلا أي شئ عن ما يسأله طفلي؟

ببساطه تعلم معه وكن “جوجل” كن محرك البحث

العلماء المسلمون القدماء كانو يلعبون حرفيا بالعلوم التي تأسس عليها العلوم الحالية ومن المميز في هذه العلوم القديمة أنها أقرب للبساطه  والعبقرية في آن واحد. فلو قمنا باعادة انتاج النماذج التي  صممها وابدعها هؤلاء العلماء فيمكننا في الاغلب شرح أساسات المخترعات الحديثة بطرق أقرب لفهم الأطفال. ولذلك نحتاج إلي طرق مبتكرة لتبسيط العلوم فنفهمها نحن ومن ثم نستطيع إيصالها لأطفالنا . لأنه ليس من المعقول أنني بمجرد أن طفلي سأل سؤالا عن مجال او جهاز فإني أحكم عليه بأنه يجب أن يتخطي عشرون عاما من المستقبل ليتعلم هذا في كلية الطب أو الهندسة.

فالعلوم ليست حكرا علي المتخصصين ويبدو ذلك جليا في برنامج رائع تعرضه القناة المشهورة ناشيونال  جيوجرافيك اسمه الرابط  يبين أن كل اختراع عملاق هو مجموعة من الاختراعات الأبسط والأصغر التي تراكبها يمثل العملاق الذي هو معقد ان تم تناوله بجملته دون معرفة التفاصيل وهو ما يريده الأطفال في الغالب اجابات تحتاج سنينا لتدرسها بالتفصيل الذي يجعلها بها خبيرا .

ولذلك فإني أجد أن البدء مع الطفل يجب أن يكون بأخذه إلي البساطه التي سنستوعبها وهو كذلك سيستمتع بالفهم المتناسب مع نموه المعرفي.

مشكلتنا هي أننا نمثل المورد الأكبر للعلوم في نظر أطفالنا ولذلك فإننا إما أن نكون عند حسن ظنهم وإما أن خيب ظنهم ثم تنطفئ فيهم شعلة وشغف التعلم.

الحل :علم طفلك كيف يصطاد العلم وكيف يستنتجه وتعلم معه

عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي كان لدينا معلم مميز،وكنا قديما نحب بعض مدرسينا حبا عميقا لدرجة أننا كنا نبكي بل وهونفسه يبكي في حال اضطر لمغادرة المدرسة لسبب ما – أما الآن فلا أعلم إن كانت هذه العلاقة ما زالت موجودة عند أولادنا أم تلاشت مع ما قد تلاشي في هذا الجيل،كان هذا المعلم محبوبا بشكل كبير ولمرة أخيرة جلس معنا في الصف ليودعنا وكانت هذه المرة المميزة للغاية لأنه فعل شيئا لم يتكرر بعدها في حياتنا وفعلا أثر فينا جميعاز فماذا فعل يا تري؟؟ هل أهدانا هدايا أو أهديناه الهدايا والحلويات أم أقمنا له حفلا وكرمناه علي مجهوده من قبل إدارة المدرسة مثلا؟ لا ..لم يحدث شئ من هذا ولكن هو قدم لن كل طالب في الفصل هدية أخيرة لم نأخذ مثلها في حياتنا قط وهي الأروع علي مر عمرنا ولم يستطع أحد ولن يستطع أحد أن يهدينا إياها. لأنه توجد بعض الهدايا تكون لحظة وومضة في حياتك والتي لم ولن تتكرر فالحياة لا ترجع والزمن يمضي.

الهدية هي أنه أوقف كل واحد منا في الفصل وأمام الجميع وذكر له أحسن وأعمق ميزة جميلة فيه ولم يكن هذا خاصا بالأولاد والبنات المتفوقين فقط ولكن الجميع حتي “البلَّاد” منهم وكان من هؤلاء طالب قال له معلمنا أنه يتمتع بذكاء شديد ويجب أن يستخدمه وهذا الطالب وملاحظته لي شخصيا هما فقط ما أتذكره.

هذا الموقف وبعده عدة مواقف من مدرسين في المراحل المختلفة أثرت في نفسي جدا وغيرت بالفعل عميقا في نفسي لأبعد الحدود. هل كانوا يرون مستقبلنا وهل كانوا يرون مستقبلنا أمامهم وهل كانوا يعرفوننا أكثر من والدينا؟من الممكن أن هذا صحيح خصوصا أننا وعلي مر الأيام نتذكر كلماتهم وتؤثر عميقا فينا بل وتشكل مستقبلنا من حيث نشعر ومن  حيث لا نشعر.

الشاهد من هذه القصة أننا يجب أن نكون علي قدر المسؤولية وهي مسؤولية الكلمة التي ننطقها لأبنائنا فكل حرف سيؤثر فيهم للأبد وأعني للأبد فعلا.

بالعودة لابننا الموهوب فالحقيقة فإنه يوجد طفل موهوب بالفطرة فعلا وذا قدرات استثنائية وهو الموهوب في المصطلح التربوي المعتمد ولكن عن تجربة وخبرة وممارستي في هذا المضمار فإنه توجد موهبة دفينة في كل طفل وهي الميزة التنافسية التي حباها الله لكل إنسان في هذا الكون ولأننا سنتكلم عن طفلنا الموهوب فسنقسم هذا الموهوب لطبقتي الأولي الموهوب بالمعني الاستثنائي والموهوب بالمعني الطبيعي .

وللحق فإن الموهبة الاستثنائية هي نسبة صغيرة لا تتعدي 2-5% وهي   لا تبني الأمم ولا تقيم اقتصادات عملاقة إلا لو قامت باقي النسبة باستثمار المواهب المختلفة الطبيعية والغير استثنائية. ومثال علي ذلك: فإنه كان هناك رجل أعمال ممتاز في التسويق لمنتجاته وأفكاره وكان يقوم بالبيع لنسبة 80% من العملاء الذي يجري بهم الاتصال شخصيا وهذه نسبة استثنائية بالفعل فهو موهوب اصطلاحا بهذا المعيار وفي مرة جلس ليشتكي لأحد المشتغلين في مجال إدارة الأعمال والمتميزين في هذا المجال فعلا فقال “لا أجد موظفين مبيعات يقومون بعُشر ما أقوم أنا به فعلا فلو حدث اتصال مع العميل فإن نسبة نجاحي 80% أما نسبة نجاح الموظف العادي فلا تزيد عن 20% في أفضل الأحوال فماذا أفعل ؟” فرد عليه صديقنا “لو وظفت 10 موظفين واتصل كل واحد منهم بمائة عميل فاستجاب له 15 منهم فسيكون اجمالي إنتاج الموظفين 150 عميل اما اذا قمت انت بالعمل وحدك فسيكون من كل مائة عميل سيكون في أفضل الأحوال 80عميل فسيكون الموظفون قد تفوقوا عليك وإن أخذت في اعتبارك احتمالية كون أحدهم سيزداد مهارة مع الممارسة والتعلم فسيكون لديك انتاج يزيد عن 180 عميل وبالتالي فإن موهبتك وتميزك لا يكفي بل إن الكون ببىىززكهالعادي أقوي من كون المتميزين.

والشاهد هنا أن الموهوبون هم كالمصابيح التي لا تكفي ولكنها تكون الحافز والمعلم لبقية الأضواء الصغيرة والكثيرة التي تنير الدنيا بالفعل. فليس المهم أن تكون النجم بقدر أن تكون المصباح.

الاهتمام بالموهوبين في المجال الرياضي والفني والأدبي للأطفال بل والكبار لدرجة أننا تقريبا كلما ذكرت كلمة موهبة خطر في بالنا الرسم والغناء والشعر وفقط. في حين أن جميع المجتمعات المتقدمة انما اهتمت بالترفيه والأدب والفنون بعد قطعهم شوط كبير في الصناعة والطب والفضاء والعلوم بينما نحن فمن أخذ نوبل منا كان في الأدب والفن ومن أخذها في العلوم لم يكن تربية وتعليم ورعاية مصرية كانت السبب ولكن المجتمع الذي قال عنه الدكتور الراحل أحمد زويل (رحمه الله) أن الفرق الصارخ بيننا وبينهم أنهم يبقون مع الفاشل حتي ينجح وللأسف فنحن علي عكس ذلك ولكن أعتقد أن هذه الفكرة بدأت تتغير فكم نسمع عن أهتمام أبوي حتي أنني أعتقد أنه في المستقبل القريب سوف نجد “جيلا من الموهوبين علميا”

ولكن يتبادر لذهني سؤال الآن: هل ممكن أن يبدأ العلم بلا معلم ؟ هل من الممكن أن يتخرج جيلا من الموهوبين بدون أبٍ أو أمٍ موهوبين أو علي الأقل علماء؟ نعم من الممكن فعلا فكيف إذاً نشأول جيل من الموهوبين؟ لابد من طرق لرعاية الموهوبين تتناسب مع المستوي الثقافي والمعيشي أيا كان فلا مستحيل ولا عذر لك أبداً إن وُهبت موهوباً فلم ترعه ولم تكن معه بوقتك ومجهودك ومالك. فكم تري من موهوبين تحطمت مواهبهم وتناقصت قدراتهم وتلفت عضلاتهم العقلية بإهمالها وعدم تمرينها فكما الجسم البشري إن تربي في بيئة يتكيف معها مع مائها وهوائها بل وأمراضها فالعقل كذلك.

Leave a Reply